الليرة اللبنانية والدولار الأميركي
سجل سعر الدولار الأميركي مستوى ال 4200 ليرة حتى آخر شهر نيسان/إبريل للمرة الأولى في السوق الموازية في لبنان الذي يعاني أزمة مالية قضت على نصف قيمة العملة المحلية. وأصبحت السوق الغير رسمية مصدراً رئيسياً للحصول على العملة الصعبة منذ أن دخل لبنان في أزمة قبل 7 أشهر لتبتعد العملة عن سعر الربط الرسمي البالغ 1507 المعتمد منذ حوالي عقدين. بدأت الليرة تتهاوى منذ أن أرغمت جائحة كورونا البلاد على فرض عزل عام في شهري آذار/مارس ونيسان/إبريل، تزامناً مع الإجراءات الصارمة للبنوك التي أدت إلى تجميد وشل حركة الودائع ومن ثم عودة الثورة/الفوضى إلى الشارع.
في السابق كان الثبات النسبي لسعر صرف الليرة مع السرية المصرفية والفائدة المنطقية يشكلان مفتاح قوة الإقتصاد اللبناني إضافة إلى عامل الثقة. إذ كان سعر صرفها يتراوح بين ليرتين وثلاث ليرات وخمسون قرشاً حتى عام 1985 ، مما أدى إلى زيادة في حسابات البنوك من الأثرياء اللبنانيين، الخليج والعالم أجمع. وعليه إعتبر القطاع المصرفي والمالي اللبناني واحداً من أكبر القطاعات المصرفية مقارنة بحجم الإقتصاد الوطني حيث بلغت الأصول المجمعة للقطاع أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبنان.
وتميز سعر العملة اللبنانية بالثبات منذ عقود، وكان هذا محور السياسة النقدية اللبنانية. وفي عام 1997، جرى تثبيت الدولار بسعر 1507.0 ليرة وهو ما يعرف بنظام سعر الصرف الثابت، وهذا يرتكز على قدرة المصرف المركزي على التثبيت. فهو كان حريص دائماً على أن يكون لديه ما يكفي من إحتياطي الدولار لشراء الليرة والعكس. فمن المعروف عالمياً بأن لبنان يرتكز على الإنفتاح الإقتصادي مما جعله مركزاً مهماً لجذب الأموال عبر الخدمات، البنوك، الإعلام والسياحة، لتأتي بعدها معادلة ثبات الليرة حيث أن أغلب المودعين كانوا يحبذون إيداع أموالهم بالليرة اللبنانية الثابتة أمام الدولار مع فائدة مرتفعة، إلى أن أتت أحداث 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
ولكن في المقابل المشكلة الأساسية تكمن في سياسة البلاد. فالطائفية، الفساد والصراعات الإقليمية كانت تضغط من وقت لآخر لتنتج هزات سريعاً ما كان يتخطاها البلد، عدا السياسات المالية الخاطئة وثمنها الباهظ التي أوقعت لبنان في دائرة الديون المستدامة. فقد بلغ الدين اللبناني حاليا ً حوالي 90 مليار دولار، ما يعادل نسبة %150 من الناتج المحلي الإجمالي المقدر ب55 مليار دولار، وهذه ثالث أعلى نسبة في العالم بعد اليابان واليونان. وخدمة الدين (أي الفوائد التي تدفعها الدولة عن الدين) قاربت لغاية عام 2019 = 7 مليارات دولار، ما يشكل عبئاً %30 من ميزانيتها السنوية المقدرة بحوالي 20 مليار دولار، وهذه الخدمة ستمثل أكثر من %60 من موازنة الدولة بحلول عام 2021 حسب تقدير صندوق النقد الدولي. .
ولكن ثبات سعر صرف الليرة أدى إلى تعميق نقطة ضعف الإقتصاد اللبناني. فتراجع عملة بلد ما عادة يؤدي إلى زيادة تنافسية في صادرات البلد من السلع والخدمات. ولكن في لبنان ثبات سعر الليرة جعل الواردات رخيصة مقارنة بالمنتج المحلي مما أضعفه وخاصة بأن البلاد تعاني من عدم الجباية المزمنة، التهريب، الهدر والفساد على أنواعه، وزيادة في الإستدانة المتواصلة من الخارج والإعتماد على الهبات من الدول الخليجية من دون طرح خطط صناعية وزراعية من أجل التنمية والإنتاجية. ولكن كل شيء تحول خلال عامي 2018 – 2019 بعد حصول تغييرات إقليمية في المنطقة والتوجهات السياسية العالمية، إذ توقف ضخ المال الخليجي المعتمد إلى لبنان، غياب مؤتمرات باريس لدعم لبنان وفشل مؤتمر سيدر وعدم تحييد البلد من الصراعات في المنطقة. فأصبح بلا دعم وبدأ النزيف الإقتصادي تزامناً مع الهدر، السرقات، والمحسوبيات التي عمرها من عمر لبنان.
وفي ضوء نقاط الضعف هذه كانت الوسيلة الوحيدة لتمويل الدولة هي أن تقوم المصارف بإقراض الحكومات المتتالية التي بدورها تضخ الأموال النقدية في عجلة الإقتصاد. فبدأ الإقتصاد يعتمد كلياً على تدوير ودائع المصارف التي كانت بدورها تعتمد على عامل الثقة وتفتخر بثبات العملة. أما الآن وفي غياب كل هذه العوامل وإنعدام القطاع الإنتاجي في شتى المجالات بدأت الليرة بالإنهيار. تراجعت الثقة وبدأت الزبائن بسحب ودائعها ليتبين لاحقاً بأن هناك شحاً بالدولار وفقدان للعملات الأجنبية الصعبة التي هي دعم أساسي لليرة، فدب الذعر أكثر وبدأ كبار النافذين بتحويل أموالهم بالمليارات إلى الخارج مع تحليق تاريخي لسعر صرف الدولار حتى تجاوز عتبة ال 4000 مشيراً إلى رقم ال 10،000 ل.ل. ما أدى إلى إرتفاع جنوني لأسعار السلع وتراجع القدرة الشرائية للرواتب وتعويضات نهاية الخدمة في ظل التضخم وغياب خطط إنقاذية وهي مستحيلة التطبيق وإن وجدت.
أما الحلول، فهي ردات فعل لغاية الآن في إلقاء اللوم كل طرف على الآخر. اذ ان مصرف لبنان يتنصل من كل تفاصيل التراجع في البيانات الرقمية مع تقديم أرقام مبهمة لم تستطع الحكومة الحالية تفنيدها حتى الساعة، والمصارف لا تجد نفسها معنية بالتعاطي مع الموضوع فهي تحصر الأزمة في مسألة الدين العام وإصلاح الدولة من دون التطرق لواقع الأزمة النقدية التي تعصف بالبلاد. فكسب الوقت أو تضييعه هو الهدف الوحيد لجميع الأطراف حتى الآن.
أما من ناحية الدولة اللبنانية فمن المعروف بأنها تصدر سنوياً أوراقاً مالية من أجل تمويل ذاتها. وهو دين بالليرة اللبنانية بنسبة %60 ، وبالدولار بنسبة %40 ، ويتم السداد بفوائد مرتفعة تبلغ حوالي %9 لليرة و%7 للدولار. هذا الدين يؤمن بغالبيته من المصارف اللبنانية ومن مصرف لبنان حيث يملك الطرفان نسبة %85 تقريباً. أي ان الدولة ما زالت تطبق ربطاً رسمياً لليرة عند 1507 للدولار للسلع الأولية كالوقود القمح والأدوية.
فتثبيت سعر الصرف عند مستوى ال 1507 منذ زمن هو خطأ إقتصادي وتقني، بالإضافة الى انه تم دعم هذا التوجه من كل الأفرقاء برفع الفوائد على سندات الخزينة والودائع بالليرة، في حين كان من المفترض توظيف هذه الأموال في بناء إقتصاد قوي يدعم سعر الليرة وفق مبادئ السوق. فبدلاً من توجيه المستثمرين وكبار الرأسماليين في مشاريع إستثمارية، تم تشجيعهم على زيادة ثرواتهم من خلال الريع، عندما وصلت فوائد سندات الخزينة اللبنانية لمستوى ال%45 في منتصف التسعينات، وحصل شراء كثيف للسندات من قبل اللبنانيين والعرب وحتى المصارف المحلية، فتراكمت الثروات في قطاع واحد وتم تفريغ البلد من طاقاته المالية والإستثمارية الأساسية وبالتالي تراجعت فرص العمل واعتبر كل هذا في حينه بالبحبوحة! وعليه تراكمت ديون تفوق ال 90 مليار دولار.
وفي النهاية وللتذكير، فقد بلغ احتياطي النقد الأجنبي في لبنان 33 مليار دولار عام 2017، وفي عام 2019 وصل إلى 25 مليار دولار، بينما يتوقع خبراء أن يصل بسبب الأزمة إلى 19 مليار، في الوقت الذي يتجاوز فيه إجمالي الديون المستحقة على لبنان بحلول نهاية عام 2020 أكثر من 6.5 مليار دولار. أما الآن وبناء على مصادر رسمية يكفي احتياطي النقد الأجنبي لـ 7-8 أشهر. فهل يقوم مصرف لبنان بطباعة المزيد من الأموال الورقية ومن ضمنها فئة ال 500،000 ل.ل؟ وهو عادة ما يلجأ إلى شركة غوزناك الروسية كخيار لطباعة أمواله منذ حوالي عشر سنوات حيث أن طبع رزمة تحتوي على 2000 ورقة تكلف الدولة حوالي 100 يورو، أما معرفة كمية الأموال اللبنانية المطبوعة في روسيا فهو صعب للغاية نظراً للسرية التامة.