متداعيات الأزمة المالية في لبنان
إن ما تشهده أسواق المال خلال آخر شهرين تعتبر أحداث غير مسبوقة في تاريخ لبنان. إذ يسود شبه إجماع في ضوء تداعيات أزمة المال على أن الأوضاع الإقتصادية والمالية لن ترجع إلى ما كانت عليه قبل نشوب الأزمة.
إن الإقتصاديين والمسؤولين الذين أنكروا في السابق عن إمكانية حدوث أزمة/ركود، بدأوا الآن يتحدثون عن أسوأ أزمة تعصف بالبلاد من الإستقلال، فبدل أن تكون الإحتفالات باليوبيل الذهبي والماسي تحولت إلى مظاهرات ومطالب وتمرد.
هؤلاء الإقتصاديون هم قلقون بخصوص الثقة في الأسواق المالية والمصارف بإعتبار أنهم جميعاً يعتقدون بأن الثقة وفقط الثقة هي السبب الحقيقي وراء دورات الإزدهار، وغياب الثقة هو سبب رئيسي للإنهيارات. ولكن عندما يتعلق الأمر بهدف تحقيق الأرباح وتراكمها بأية وسيلة ممكنة، فعندها تخرج الأمور عن السيطرة فتنهار الثقة والمصداقية والتعاون. وقد حصل هذا مؤخرأً مع كبار البنوك التي كان يعتقد في السابق بأنها مبنية على أسس سليمة، لا تخرق لا تحرق ولا تغرق، وغير قابلة من أن تسقط.
إذ على مدى عقدين ونصف أمعنت المصارف في سلب أموال الزبائن وراكمت بإشراف قوى السلطة وبمشاركتها وبإدارة حاكمية المصرف المركزي، أرباحاً هائلة. من ثم تم غض النظر عن مخالفات هذه البنوك من تحديد معدلات الفوائد على القروض والودائع، وفرض قيوداً إستنسابية مؤخراً على عمليات السحب ضمن أرقام محددة ووقف التحويلات بشكل نهائي نتيجة النقص في السيولة مما أدى إلى هلع في الأسواق وإنهيار سعر صرف الليرة واللاإستقرار في الأسعار، فالأزمة مستمرة وفي تصاعد.
فالسوق السوداء بدأت تتحكم بسعر صرف الدولار مقابل الليرة والتي بلغت حتى كتابة هذه السطور رقم ال2100 ل. والتضخم يتسرب شيئاً فشيئاً إلى أسعار السلع الأساسية.
الأزمة المالية التي توقعها بعض المحللين والذين هم فعلاً من أهل الإقتصاد والفكر والبصيرة لم يلقوا آذاناً صاغية آنذاك، نتيجة سوء الإدارة الفادح، التعنت والمزيد من التلاعب لمرحلة من المضاربات المتهورة التي أنتجت أكبر أزمة مالية وإقتصادية في تاريخ البلاد.
وبالمقابل يعمل بعض الإقتصاديين السذج على تبسيط وصف الإنهيار الإقتصادي عبر القول بأنه أزمة عابرة، وإحياء فجأة شعار فقط لليرة لا للدولار.
من المسلم به أن كل ما يصعد إلى أعلى بشكل مبالغ فيه يجب أن يرتد ويهبط ليأخذ حجمه الطبيعي بناء على العرض وقلة الطلب في السوق. ولعدة سنوات خلت كان الإقتصاد الداخلي يبدو وكأنه يخرق قوانين الجاذبية الإقتصادية. وعندما بدأ بالسقوط سجل سرعة قياسية بسبب الإرتفاعات الهائلة التي وصلتها المضاربات في القطاع المالي والعقاري.
هبطت أسعار الشقق والأراضي خلال السنتين المنصرمتين إلى حوالي %50 وما زالت غالية الثمن بعض الشيء. والمفارقة في هذه الأزمة التي تشهدها البلاد من أن البنوك كانت وما تزال تجمع الثروات في الوقت الذي كانوا يواصلون فيه تطبيق الإستراتيجيات التي أدت إلى الإنهيار، مع إحتمال تحييدهم وإعفائهم من المسوؤليات مع العلم بأنهم والمصرف المركزي رأس تدمير الإقتصاد عبر تذويب أموال المستثمرين والمودعين في أسواق الأصول وتغييب العملة الصعبة.
يذكر بأنه لم يكن هناك من أموال للرعاية الصحية، الضمان، الشيخوخة، والتعليم. لكن هناك الكثير من الأموال للبنوك من أجل القروض وإغراق المستهلك والمواطن بالديون من دون أية خطة إنتاجية في مجال الصناعة والزراعة وغيرها. هذا التناقض الفاضح والعشوائية في التعاطي سيكون له عواقب هائلة في المستقبل، أعباء الديون الثقيلة في خلال آخر 20 عاماً سترمى على كاهل الأجيال القادمة وسوف يؤدي هذا حتماً إلى تغيير عميق في المجتمع.
كان علينا الحد من نفوذ المصارف من أجل تجنب الإنهيار الذي نشهده اليوم. إذ لا يمكننا كمواطنين ومستثمرين وحتى كمودعين الإعتماد على المصارف. فإن هي ربحت كانت المنفعة لكبار المساهمين وإن خسرت يتحمل التبعات المودعين فتتبخر حسابات بالعملة الأجنبية (الدولار وغيرها) والسحب بالليرة بالقطارة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي يحفز المودعين بسحب أموالهم تدريجياً من البنوك حتى تفرغ هذه الأخيرة من السيولة فيكدس المواطن أمواله في بيته حيث تكمن راحة البال والقدرة الكبيرة.
وإعلان الحرب على المصارف والحد من قدراتها لأنه لم نعد نحتمل مستقبلاً يهدد فيه القطاع المصرفي المجتمع بأكمله كالذي وصلنا إليه حالياً. قامت تلك المصارف بإستخدام الودائع العامة ومن دون تخطيط بالمضاربة في العقارات والتلاعب بالمشتقات المالية من سندات وغيرها وحتى تهريب أموال أو الإصرار على إيداعات مجمدة طويلة الأمد بفوائد ومخاطرة عالية وعند الإستحقاق يكون الجواب لا دولار بعد اليوم والتعامل بالعملة الوطنية أي الليرة التي تتآكل قيمتها أسبوعياً بدون أي سقف رقمي يذكر. وحتى الآن لا يوجد أي أمل أو برنامج للحد من هذه الأزمة إن كان من قبل الدولة المعنية أو جهابذة الإقتصاد المعتمدين. ومن تداعيات هذه المشكلة المالية دفعت بالعديد من المؤسسات الخاصة إلى تسريح بعض الموظفين أو خفض أجورهم.
خلال عقدين من الزمن حقق أصحاب البنوك أرباحاً طائلة وهم الآن يدعون العكس. لم يكن أحداً يهتم، لقد إنخرطوا جميعاً في جنون مبدأ ربح الأموال. وكانت آخر إبداعاتهم الجهنمية هي زيادة الفوائد على الليرة اللبنانية المجمدة بنسبة %16 - %17 لسنة واحدة. أما اليوم يشتكون من عدم توفر السيولة والسبب هو كون جزء كبير من هذه السيولة إما وهمي أو موجود في حسابات خارج البلاد. عندما كان ما يسمى "بفترة الإزدهار" كان لقلة قليلة من الأشخاص. أما الأزمة المالية الحالية فقد طاولت الجميع، ولم تنحصر تداعيتها في القطاع المالي والمصرفي فقط، بل إمتدت إلى الإقتصاد الحقيقي، وقد أثارت تساؤلات تتصل بالنظام الإقتصادي الداخليي والعلاقات الإقتصادية الدولية التي يفتخر بها البعض.
وأخيراً، يجب السعيي إلى إعادة الإستقرار الإقتصادي عبر ضبط العجز والدين العام، والعمل على تطوير الأسواق المالية المحلية وإتباع سياسة الشفافية المصرفية فهي ضرورية لبناء ثقة المودعين والمستثمرين معاً في ضخ أموال من الخارج عبر التحويلات ما يؤدي إلى زيادة إحتياطي العملات الأجنبية ووفرة في السيولة وبالتالي تنشيط الحركة الإقتصادية ككل.